Thursday, 28 November 2024

كفيف الأمس وكفيف اليوم: مسيرة من التحدي والاندماج.

لطالما كان الشخص الكفيف رمزاً للتحدي والصبر في مواجهة صعوبات الحياة، وقد شهدت رحلته نحو الاندماج في المجتمع تطورات كبيرة على مدار الزمن. فمنذ عقود، كانت خيارات الكفيف محدودة، وكانت التحديات التي تواجهه في الحياة اليومية كبيرة جداً، بينما شهدت السنوات الأخيرة قفزة نوعية في سبل دعمه وإدماجه. هذه المقارنة بين كفيف الأمس وكفيف اليوم تكشف لنا حجم التقدم الذي أُحرز في هذا المجال.
ففي الماضي، كانت ظروف الكفيف أصعب بكثير؛ إذ لم تكن الوسائل التكنولوجية الحديثة متاحة كما هي اليوم. وكان اعتماده مقتصراً على العائلة أو الأصدقاء لمساعدته في التنقل وتلبية احتياجاته اليومية، ولم يكن المجتمع بشكل عام مهيئاً لدعمه، وغالباً ما كان يشعر بالعزلة عن محيطه، ويواجه صعوبات في التعلم والعمل؛ بسبب محدودية الفرص في المؤسسات التعليمية والتوظيفية، وعلى الرغم من وجود كتابة برايل التي تمثل إنجازاً في حد ذاتها، إلا أن استخدامها ظل محدوداً في أغلب الأماكن، ولم تكن هناك جهود ملموسة لتعليمها للكفيف بصورة واسعة النطاق، مما صعّب عليه الوصول إلى المعلومات المكتوبة، كل هذه الصعوبات جعلت المجتمع ينظر إليه في كثير من الأحيان باعتباره شخصاً عاجزاً، مما زاد من تهميشه.
أما اليوم، فقد تطورت التقنيات ووسائل الدعم بشكل كبير، مما مكّن الكفيف من تحقيق درجة أعلى من الاستقلالية والاندماج في المجتمع، وأصبح من المستفيدين من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي قدمت أدوات مساعدة متنوعة مثل الهواتف الذكية المزودة ببرامج ناطقة، والأجهزة اللوحية، وتطبيقات التعرف على النصوص والصور، وثورة الذكاء الاصطناعي الهائلة، مما سهّل على الكفيف الوصول إلى المعلومات والتفاعل مع الآخرين والقيام بأعمال كثيرة كانت في يوم ما مستحيلة.
وبالإضافة إلى ذلك، شهدت الأجهزة والتطبيقات الخاصة تطورات كبيرة هي الأخرى، مثل العصا الذكية وتطبيقات الفيديو التي تتيح للكفيف التنقل بأمان في الأماكن العامة دون الحاجة لمرافقة دائمة، كما أن نظم التوجيه الصوتي في المؤسسات والمرافق العامة، ومبادرات تحويل الكتب والمراجع إلى نسخ صوتية أو مكتوبة بكتابة برايل وبصيغ سهلة القراءة من خلال الكمبيوتر، ساهمت في توفير بيئة تعليمية وتوظيفية أكثر شمولية للكفيف.
وفيما يتعلق بالعمل، أصبحت مؤسسات عديدة توفر فرصاً للكفيف في مجالات مختلفة، مدعومة ببرامج تدريبية متخصصة، وبفضل قوانين حقوق ذوي الإعاقة، باتت الشركات ملزمة بتوفير بيئة عمل تتناسب مع احتياجات الكفيف، مما عزز من فرصه الوظيفية وأتاح له أن يكون عنصراً فاعلاً ومنتجاً.
وإلى جانب التكنولوجيا المتطورة، هناك الأدوات المساعدة الأخرى التي تصمم بشكل مناسب للاستخدام كأن تكون أكبر أو أوسع أو أن تكون مزودة بعلامات بارزة أو واضحة الرؤية تسهل استخدامها وتمييزها، ولا ننسَ الحدس العالي الذي يتمتع به الكفيف في محاولة الدماغ لملء الفراغ الذي تركه فقدان البصر لديه.
ومع كل هذا التطور، لم يعد الكفيف  مجرد شخص فاقد للبصر، بل هو فرد يمتلك قدرات ومواهب يمكن أن تكون إضافة قيمة لمجتمعه إذا ما حصل على الدعم اللازم، ومن المهم أن نتقبل الكفيف وندعمه في مسيرته نحو الاندماج الكامل، وأن ندرك أن أي إعاقة جسدية لا يجب أن تقف عائقاً أمام تحقيق الإنسان لطموحاته.
فلنكن عوناً للكفيف، ولنساهم جميعاً في بناء مجتمع أكثر شمولية، حيث يجد كل فرد مكانه وحيث تُقدر قيمة كل إنسان بما يقدمه لا بما يفتقده.

Wednesday, 27 November 2024

أخلاقيات مهنة التدريس الجامعي: نحو تعزيز التفكير النقدي واحترام العقول الشابة

مهنة التدريس الجامعي ليست مجرد وظيفة تؤدى لتحقيق دخل مادي أو لتأمين مكانة اجتماعية، بل هي رسالة نبيلة ومسؤولية تتجاوز حدود الفصول الدراسية. إنها دعوة لتشكيل العقول، وتشجيع التفكير النقدي والإبداعي، وإعداد أجيال قادرة على مواجهة تحديات الحياة بتفكير مستقل وواعٍ.
ومع ذلك، تواجه هذه المهنة تحديات كبيرة تتعلق بأخلاقيات التعامل مع الطلبة وتشجيع مهاراتهم، خاصة في ظل بعض الممارسات التي تهدد بيئة التعليم الجامعي، حيث يعاني بعض الطلبة من بعض الأساتذة الجامعيين من معاملتهم كمتلقين سلبيين، يتم حشو عقولهم بآراء الباحثين والمفكرين السابقين دون فتح المجال للنقاش أو النقد.

إن هذا النهج لا يعيق الإبداع فحسب، بل يكرس عقلية التبعية الفكرية التي تخالف جوهر التعليم الجامعي، فالطالب الجامعي ليس وعاءً فارغاً يتم ملؤه بالحقائق والمعلومات، بل هو عقل حي يستحق الاحترام، ويحتاج إلى التشجيع لاستكشاف أفكار جديدة وتحدي السائد منها.
إن الأستاذ الذي يحترم الطلبة ويقدر مساهماتهم الفكرية لا ينظر إلى اختلاف الآراء على أنه تهديد، بل فرصة للنقاش المثري والتعلم المتبادل، ما يخلق بيئة تعليمية صحية تعزز من الثقة بالنفس وتشجع على الجرأة في التفكير، وفي المقابل، فإن القمع الفكري والاستهزاء بأفكار الطلبة يخلق مناخاً من الخوف والخضوع ويؤدي إلى مخرجات تعليمية ضعيفة، وهو ما يتعارض مع الرسالة السامية للتعليم.

هذه الأخلاقيات ليست مجرد قواعد أخلاقية، بل هي ركيزة أساسية يعتمد عليها نجاح العملية التعليمية، فتشجيع التفكير النقدي، واحترام الطلبة كأفراد، والابتعاد عن التسلط الفكري، هي ممارسات يجب أن تكون في صميم كل أستاذ جامعي.

إن مهنة التدريس الجامعي ليست للجميع، فهو يتطلب سمات خاصة، مثل الصبر، والقدرة على التحفيز، والرغبة في التعلم المستمر، فضلاً عن مهارات تواصل فعالة مع الطلبة، فالأستاذ الجامعي المثالي هو الذي يمتلك شغفاً حقيقياً بالعلم والتعليم، ويرى في الطلبة امتداداً لرسالته وليس مجرد أرقام في السجلات الأكاديمية. أما أولئك الذين ينظرون إلى المهنة كوسيلة لتحقيق مكاسب مادية أو مكانة اجتماعية، فإنهم غالباً ما يفتقرون إلى القدرة على إلهام الطلبة وتوجيههم نحو تحقيق إمكاناتهم، لذا، يجب أن يُعاد النظر في اختيار من يتقلد هذه المهنة، بحيث تظل الجامعة منارة للعلم والتفكير الحر، وليس مجرد مصنع لتكرار الأفكار.
رسالة لكل أستاذ جامعي: إن وجودك في قاعة المحاضرات ليس فقط لتعليم المنهج الدراسي، بل لإشعال شرارة التفكير والإبداع في عقول الطلبة لتغير العالم. اجعل من احترام آرائهم وتقدير مساهماتهم مبدأً أساسياً في عملك، ولا تخشَ الأفكار الجديدة التي يطرحونها، بل شجعهم على التفكير خارج الصندوق ومواجهة الأفكار السائدة بالنقد البناء، واجعل من نفسك قدوة تُلهم الطلبة، وكن حافزاًأً يدفعهم إلى الإيمان بقدراتهم وأفكارهم، ليبقى أثرك خالداً في عقول الأجيال التي علمتها، ويصبح التعليم الجامعي منارة حقيقية للتنوير والإبداع.

Monday, 25 November 2024

خدمات الأشخاص ذوي الإعاقة بين العرض والفرض.

في ظل تزايد الوعي المجتمعي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، شهدنا خطوات ملموسة قامت بها الجهات الحكومية والخاصة لتوفير الخدمات والتسهيلات التي تضمن لهم حق العيش الكريم والمشاركة الفاعلة في المجتمع. من تجهيز الأماكن العامة لتكون ميسّرة الوصول إلى تقديم الدعم في التعليم والتوظيف، تبدو هذه المبادرات كجزء من التزام المجتمع بتمكين هذه الفئة.

ولكن، في خضم هذا السعي المحمود، نجد أنفسنا أمام مشكلة تستحق التوقف عندها، وهي فرض الخدمة على المستفيد بدلاً من عرضها عليه بطريقة اختيارية تحترم إرادته واحتياجاته الفردية، وقد يبدو هذا الأمر صغيراً لدى البعض، لكنه يعكس غياب فهْم عميق لللغرض الحقيقي من هذه الخدمات، وهو التسهيل قدر الإمكان وتعزيز الاستقلالية، كما يعكس غياب إدراك حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الاختيار والاستقلالية.
عندما تُقدّم خدمة ما وكأنها إجبارية، فإن ذلك قد يشعر الشخص ذي الإعاقة بأنه فاقد للسيطرة على قراراته، غير مدرك لمصلحته، وكأنّ الجهات المقدمة ترى فيه متلقياً سلبياً، لا يُمكنه التفكير أو اتخاذ القرار الأنسب لحياته. قد يكون الدافع وراء هذا الفرض نية حسنة أو حرصاً مفرطاً على تقديم الدعم، لكن النتيجة هي تهميش حق المستفيد في أن يكون له الرأي الأول والأخير في اختيار ما يناسبه.
وما يزيد الأمر سوءً هو استغلال مرافق الشخص ذي الإعاقة وذويه ليستفيدوا منها بدورهم، دون أن يوضحوا له طبيعة الخدمة ومدى ملاءمتها له من عدمها، فأصحاب الهمم من ذوي الإعاقة دائماً ما يتحينون الفرص لإثبات قدراتهم وإمكاناتهم، ووجود مثل هذه الخدمات قد يزعجهم إذا ما تم استغلالها واستغلالهم بسببها، الأمر الذي يحول هذه الخدمات من نعمة إلى نقمة، ولا يملكون حق الاختيار في قبولها أو الاستغناء عنها.

وينجم عن فرض الخدمات على الأشخاص ذوي الإعاقة آثارٌ عديدة تتمثل في الشعور بالتهميش، وإهدار الموارد بسبب تقديم خدمات غير مرغوبة أو غير مناسبة للاحتياجات الحقيقية، وتعزيز الصورة النمطية بأنهم غير قادرين على الاستقلال بأنفسهم، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى خلق فجوة في الثقة بين الأشخاص ذوي الإعاقة والجهات المقدمة للخدمة بسبب تقديمها بطريقة فوقية.


إنّ تقديم الخدمات للأشخاص ذوي الإعاقة يجب أن يُبنى على احترام إرادتهم وفهم احتياجاتهم الحقيقية، وهذا يعني عرض الخدمات لا فرضها، وأن تكون الخدمات متاحة بوضوح مع توضيح الخيارات، بحيث يختار المستفيد ما يناسبه، كذلك محاورته واستشارته قبل تقديم أي خدمة لضمان أنها تتماشى مع احتياجاته ورغباته، وعدم استغلال مرافقه لهذه الخدمات، وأن يكون الغرض الأسمى من هذه الخدمات هو تمكين الاستقلالية للأشخاص ذوي الإعاقة وليس جعلهم يعتمدون على خدمات مفروضة.
إن تقديم الدعم للأشخاص ذوي الإعاقة أمر محمود وعمل مشروع، لكنه لا يعني فرض الوصاية عليهم، بل يعني التمكين والإشراك في عملية صنع القرار من خلال التسهيلات المقدمة من هذه الخدمات، ومن الضروري أن تُصمم الخدمات بشكل يتيح لهم حرية الاختيار، وأن يتم الاستماع إلى أصواتهم واحتياجاتهم الفعلية، هذا الاحترام لحق الاختيار هو جزء أساسي من تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، وهو ما يضمن تحقيق الهدف الأسمى: مجتمع متساوٍ يتيح الفرص للجميع دون تمييز أو وصاية.

في عصر المعلومات المتدفقة، كيف نحمي الحقيقة من التشويه.

في عصرنا الحالي، أصبح الوصول إلى المعلومة أسهل من أي وقت مضى، بفضل التكنولوجيا المتقدمة ووسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لكل فرد مساحته الخاصة لنشر الأفكار والمعلومات. ومع ذلك، فإن هذا التدفق المستمر للمعلومات لم يأتِ دون ثمن؛ إذ أصبح التمييز بين الحقيقة والباطل تحدياً كبيراً يواجه الأفراد والمجتمعات على حدٍ سواء.
وتشهد هذه الحقبة انفتاحاً غير مسبوق يتيح لأي شخص مشاركة أفكاره وآرائه مع ملايين الناس بضغطة زر، بغض النظر عن خلفيته أو نواياه، وعلى الرغم من فوائد هذا الانفتاح، إلا أنه خلق بيئة خصبة لانتشار الشائعات والأخبار المزيفة، وفي كثير من الأحيان، يتم ترويج هذه المعلومات المغلوطة بطرق احترافية تجعلها تبدو وكأنها حقائق لا تقبل الجدل.
وتتعدد الدوافع وراء نشر المعلومات غير الدقيقة، أحياناً تكون النية بريئة، مثل نشر خبر غير مؤكد بسبب الحماسة أو الثقة في مصدر غير موثوق، وفي حالات أخرى تكون النوايا خبيثة، مثل التلاعب بالرأي العام لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية، ويزيد من خطورة هذه الظاهرة اعتماد الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار، حيث تتصدر العناوين المثيرة قائمة المشاهدات والنقرات بغض النظر عن صحتها.
وعلاوة على ذلك، فإن الخوارزميات التي تعتمد عليها هذه المنصات تلعب دورأً كبيرأً في تعزيز انتشار المعلومات المضللة. فهي تُظهر للمستخدمين ما يتماشى مع اهتماماتهم ومعتقداتهم، مما يعزز “فقاعات المعلومات” ويقلل من تعرضهم لوجهات نظر مختلفة أو معلومات تصحيحية.
ولا شك أن مسؤولية التصدي للمعلومات الزائفة تقع على عاتق الجميع، بدءً من الفرد وانتهاءً بالمؤسسات الإعلامية الكبرى، فعلى المستوى الشخصي، يمكننا اتباع خطوات بسيطة لكنها فعالة، مثل التأكد من المصدر، والبحث عن المعلومة من مصادر متعددة، وتجنب الانجراف وراء العناوين المثيرة.
أما على المستوى المؤسسي، فإن تعزيز الوعي الإعلامي لدى الجمهور يجب أن يكون أولوية، فمناهج التعليم يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في تعليم الأجيال القادمة مهارات التفكير النقدي والقدرة على التحقق من المعلومات.
وعلى الرغم من أن التكنولوجيا هي العامل الأساسي في تفاقم هذه المشكلة، إلا أنها أيضأً يمكن أن تكون جزءً من الحل، فقد تطورت تقنيات التحقق من صحة المعلومات بشكل ملحوظ، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الصور والفيديوهات والنصوص للكشف عن التلاعب. لكن الأهم من ذلك هو أن يدرك كل فرد أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي؛ بل يجب أن يصاحبها وعي إنساني يجعل من الصعب خداع العقول.
ختاماً، ليس كل ما يُنشر يُصدق، وليس كل ما يُقال حق، ففي عالم تفيض فيه المعلومات من كل جانب، يصبح الوعي العميق والتفكير النقدي مقومات  لا غنى عنها لحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من مخاطر التضليل، فالمعرفة الحقيقية ليست في كثرة المعلومات، بل في التمييز بين الصحيح والزائف، بين الحقيقة المطلقة والنوايا الصادقة، وبين الشائعات المغرضة والمصالح الخفية، وصولاً لمجتمع يطمئن فيه الجميع.

الاعتدال في الرأي… طريق إلى الجماهيرية الرقمية

في عصر السوشيال ميديا، حيث يتنافس الأفراد والمؤسسات على كسب أكبر عدد من المتابعين، يبرز سؤال مهم: لماذا يحظى أصحاب الآراء المعتدلة والإيجابي...