رغم أننا نعيش في عصرٍ تُدار فيه الدول عبر البيانات، وتُبنى فيه السمعة من تغريدة، وتُقاد الحملات عبر المنصات الرقمية… إلا أن بعض العقول ما زالت حبيسة التسعينات، تُعرّف الإعلام على أنه "إذاعة وتلفزيون"، وكأن التخصص لم يغادر مبنى وزارة الإعلام.
المؤسف أن هذا التصور لا يأتي من عامة الناس فقط، بل أحياناً من مسؤولين أو زملاء في بيئات يفترض أن تكون أكثر وعياً واتساعاً. يُقال للطالب الذي درس الإعلام بشغف، وأكمل دراساته العليا بإصرار: "ليش ما اشتغلت في الإذاعة؟"، "وش فايدة شهادتك؟"، وكأن الإعلام لا يستحق أن يُدرس إلا إذا انتهى بك في مذيع يقرأ الأخبار أو مخرج يستلم كاميرا!.
لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال بصوت عالٍ: الإعلام علم، ومهنة، ورسالة، ومجال متفرّع لا يقل قيمة عن الطب والهندسة والقانون، فهو تخصص يجمع بين اللغة، والفكر، والتقنية، والتحليل، والتصميم، وإدارة الرأي العام، وعلم النفس، والبيانات، وحتى الذكاء الاصطناعي. والعاملون في الوزارات والشركات الكبرى في أقسام الاتصال المؤسسي، الإعلام الرقمي، كتابة المحتوى، إدارة السمعة، تصميم الحملات، والتدريب الإعلامي هم في قلب العمل الإعلامي المعاصر، ومن خريجي الإعلام، ويضعون سياسات التواصل، ويعالجون الأزمات، ويديرون السمعة المحلية والعالمية. كذلك قطاعات الإعلام الصحي والتعليم الرقمي والتسويق السياسي كلها قطاعات تعتمد كلياً على خبرات إعلامية احترافية.
واليوم، بدأت الجامعات العالمية توسع أقسام الإعلام لتشمل تحليل البيانات الإعلامية، والمحتوى التفاعلي، والإعلام البيئي، والاتصال الاستراتيجي، والذكاء الاصطناعي الإعلامي، والقائمة في تجدد مستمر ما دام الإعلام يتطور بمجالاته وتقنياته.
وأيضاً، لا يمكننا تجاهل أن بعض الإعلاميين أنفسهم ساهموا في ترسيخ الصورة النمطية، حين اختصروا التخصص في الإلقاء أو الظهور فقط، دون التعمق في جوهره العلمي، أو استثماره في تطوير المجتمع.
لكن اللوم الأكبر يقع على بيئة لا تزال تقيس النجاح بعدد مرات الظهور على الشاشة، لا بعدد المرات التي غيّر فيها الإعلام فكرة، أو صنع رأياً عاماً، أو واجه شائعة.
خلاصة القول: الإعلام ليس مجرد صوت وصورة ومظهر، بل هو كلمة وبيان وأثر، وفكرة وتخطيط وتدبير، وهو القوة الناعمة، وسلاح المجتمعات، والمحرّك الخفي وراء كل فكرة تصل إلى الجماهير. فاحترام تخصص الإعلام واجب، ليس من باب المجاملة، بل لأنه حجر أساس في بناء الوعي الجماعي للمجتمع.
ولنرددها بملء الثقة: الإعلام ليس إذاعة وتلفزيون فقط. الإعلام هو كل ما يُشكّل وعي الناس.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
الاعتدال في الرأي… طريق إلى الجماهيرية الرقمية
في عصر السوشيال ميديا، حيث يتنافس الأفراد والمؤسسات على كسب أكبر عدد من المتابعين، يبرز سؤال مهم: لماذا يحظى أصحاب الآراء المعتدلة والإيجابي...
-
في الثالث من ديسمبر من كل عام، يحتفل العالم بـ اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة ، وهو مناسبة تهدف إلى تعزيز الوعي المجتمعي بحقوق الأشخاص ذ...
-
في عصرنا الحالي، أصبح الوصول إلى المعلومة أسهل من أي وقت مضى، بفضل التكنولوجيا المتقدمة ووسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لكل فرد مساحته ا...
-
إنها من أوليات القواعد التي درسناها حين كنا أطفالاً في المراحل الابتدائية، قاعدة بسيطة، كنا سعداء لأننا عرفناها وطبقناها في حساباتنا الصغيرة...
No comments:
Post a Comment