Wednesday, 3 September 2025

الاعتدال في الرأي… طريق إلى الجماهيرية الرقمية

في عصر السوشيال ميديا، حيث يتنافس الأفراد والمؤسسات على كسب أكبر عدد من المتابعين، يبرز سؤال مهم: لماذا يحظى أصحاب الآراء المعتدلة والإيجابية بجمهور واسع، بينما يتراجع حضور الحسابات ذات الخطاب المتطرف أو العدواني؟ 

الاعتدال يجذب القلوب والعقول

المتابع العادي يبحث غالبًا عن محتوى يضيف له قيمة، سواء من خلال معلومة مفيدة، أو طرح متوازن يبعث على الاطمئنان، أو حتى جرعة أمل في يوم مزدحم بالضغوط. الرأي المعتدل ينجح في مخاطبة شريحة أوسع من الناس، لأنه لا يستفز طرفًا ولا يثير عداوة طرف آخر. وبهذا يصبح الحساب مساحة آمنة يجد فيها المتابع نفسه دون أن يشعر بالانتماء إلى معسكر ضد آخر. 

التطرف… دائرة ضيقة وسريعة الانطفاء

على النقيض، الحسابات التي تبني حضورها على خطاب متشدد – دينيًا أو اجتماعيًا أو أيديولوجيًا – تجد نفسها محصورة في دائرة ضيقة من المؤيدين. هذا النوع من المحتوى يجذب المتابع بدافع الفضول أو الانفعال، لكنه سرعان ما يرهقه بسبب النبرة العدوانية والسلبية المستمرة. كثير من المتابعين يفضلون الانسحاب بعد فترة، لأنهم يبحثون عن بيئة تفاعلية صحية لا عن ساحة صراع. 

خوارزميات المنصات ليست محايدة تمامًا

لا يمكن إغفال أن المنصات الرقمية نفسها تلعب دورًا في تعزيز هذا الاتجاه. فالمحتوى المعتدل غالبًا ما يُعتبر أكثر أمانًا للعرض وأقل عرضة للشكاوى أو البلاغات. لذا تدفع به الخوارزميات بشكل أوسع، بعكس المحتوى المتطرف الذي قد يتم تقييده أو حتى حجبه في بعض الحالات. 

استثناءات محدودة

صحيح أن بعض الحسابات المتشددة تنجح أحيانًا في جمع أعداد كبيرة من المتابعين، لكن ذلك غالبًا يرتبط بعوامل خارجية مثل دعم سياسي أو استغلال قضية جدلية. ومع ذلك، فإن هذا البريق لا يدوم طويلًا، لأن أساسه ليس قيمة حقيقية بقدر ما هو إثارة وقتية. 

الخلاصة

الجماهيرية الرقمية لا تُبنى على الصراخ ولا على التطرف، بل على القدرة على خلق محتوى متوازن، يعكس وعيًا ويمنح المتابع قيمة حقيقية. الاعتدال في الطرح لا يعني الحياد السلبي، بل هو فن التعبير عن الرأي بقوة ووضوح، دون انزلاق إلى العداء أو الاستفزاز. وفي النهاية، ما يبقى ليس الصوت الأعلى، بل الصوت الأصدق والأكثر اتزانًا. 

Saturday, 26 July 2025

الإعلام ليس إذاعة وتلفزيون فقط.

رغم أننا نعيش في عصرٍ تُدار فيه الدول عبر البيانات، وتُبنى فيه السمعة من تغريدة، وتُقاد الحملات عبر المنصات الرقمية… إلا أن بعض العقول ما زالت حبيسة التسعينات، تُعرّف الإعلام على أنه "إذاعة وتلفزيون"، وكأن التخصص لم يغادر مبنى وزارة الإعلام.

المؤسف أن هذا التصور لا يأتي من عامة الناس فقط، بل أحياناً من مسؤولين أو زملاء في بيئات يفترض أن تكون أكثر وعياً واتساعاً. يُقال للطالب الذي درس الإعلام بشغف، وأكمل دراساته العليا بإصرار: "ليش ما اشتغلت في الإذاعة؟"، "وش فايدة شهادتك؟"، وكأن الإعلام لا يستحق أن يُدرس إلا إذا انتهى بك في مذيع يقرأ الأخبار أو مخرج يستلم كاميرا!.

لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال بصوت عالٍ: الإعلام علم، ومهنة، ورسالة، ومجال متفرّع لا يقل قيمة عن الطب والهندسة والقانون، فهو تخصص يجمع بين اللغة، والفكر، والتقنية، والتحليل، والتصميم، وإدارة الرأي العام، وعلم النفس، والبيانات، وحتى الذكاء الاصطناعي. والعاملون في الوزارات والشركات الكبرى في أقسام الاتصال المؤسسي، الإعلام الرقمي، كتابة المحتوى، إدارة السمعة، تصميم الحملات، والتدريب الإعلامي هم في قلب العمل الإعلامي المعاصر، ومن خريجي الإعلام، ويضعون سياسات التواصل، ويعالجون الأزمات، ويديرون السمعة المحلية والعالمية. كذلك قطاعات الإعلام الصحي والتعليم الرقمي والتسويق السياسي كلها قطاعات تعتمد كلياً على خبرات إعلامية احترافية.
واليوم، بدأت الجامعات العالمية توسع أقسام الإعلام لتشمل تحليل البيانات الإعلامية، والمحتوى التفاعلي، والإعلام البيئي، والاتصال الاستراتيجي، والذكاء الاصطناعي الإعلامي، والقائمة في تجدد مستمر ما دام الإعلام يتطور بمجالاته وتقنياته.
وأيضاً، لا يمكننا تجاهل أن بعض الإعلاميين أنفسهم ساهموا في ترسيخ الصورة النمطية، حين اختصروا التخصص في الإلقاء أو الظهور فقط، دون التعمق في جوهره العلمي، أو استثماره في تطوير المجتمع.
لكن اللوم الأكبر يقع على بيئة لا تزال تقيس النجاح بعدد مرات الظهور على الشاشة، لا بعدد المرات التي غيّر فيها الإعلام فكرة، أو صنع رأياً عاماً، أو واجه شائعة.
خلاصة القول: الإعلام ليس مجرد صوت وصورة ومظهر، بل هو كلمة وبيان وأثر، وفكرة وتخطيط وتدبير، وهو القوة الناعمة، وسلاح المجتمعات، والمحرّك الخفي وراء كل فكرة تصل إلى الجماهير. فاحترام تخصص الإعلام واجب، ليس من باب المجاملة، بل لأنه حجر أساس في بناء الوعي الجماعي للمجتمع.

ولنرددها بملء الثقة: الإعلام ليس إذاعة وتلفزيون فقط. الإعلام هو كل ما يُشكّل وعي الناس.

Monday, 23 June 2025

تليجرام.. الجانب الآخر من التواصل الاجتماعي

حين يُذكر اسم "تليجرام"، يتبادر إلى أذهان كثيرين أنه مجرد تطبيق للمراسلة، شبيه بواتساب أو ماسنجر. لكن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير، فـ"تليجرام" ليس فقط وسيلة تواصل، بل هو نظام بيئي متكامل، يجمع بين الخصوصية، والتنوع، والحرية، والمحتوى الإبداعي.
يتميز "تليجرام" بواجهته البسيطة وأمانه العالي، لكنه يخفي خلف هذه البساطة عالماً من الإمكانيات التي لا تتوفر في التطبيقات الأخرى. فهناك آلاف القنوات التي تقدم محتوى متخصصاً في كل مجال يمكن تخيله: من التعليم والتقنية، إلى الصحة والفن والتاريخ. يمكن لأي مستخدم أن ينضم إلى قنوات معرفية تقدم محتوى احترافيًا مجانياً، أو يتابع ملخصات الكتب، أو يتعلم لغة جديدة بأسلوب ممتع.
أما البوتات (Bots)، فهي من أبرز ملامح تليجرام الفريدة. هذه الروبوتات الذكية تقوم بأدوار مذهلة، مثل تلخيص المقالات، وتحويل الصوت إلى نص، وإرسال الأخبار العاجلة، وحفظ الملاحظات، وحتى ممارسة الألعاب. لا تحتاج لتطبيقات إضافية، فكل ما تحتاجه في مكان واحد.
كذلك يتميز "تليجرام" بخيارات خصوصية عالية، مثل إخفاء رقم الهاتف، والدردشة السرية، والمجموعات المغلقة. وهذا ما جعله ملاذًا آمنًا للكثير من المستخدمين الذين يبحثون عن تواصل بعيد عن التشويش، وعن الضجيج الذي يصاحب بعض المنصات الاجتماعية الأخرى.
الأهم من ذلك كله، أن "تليجرام" لا يعتمد على خوارزميات تروّج للمحتوى بحسب التفاعل فقط، بل يتيح لك اختيار ما تراه بنفسك، ويمنحك حرية المتابعة أو الانسحاب دون ضغط. وهذا ما يخلق تجربة تصفح أكثر وعيًا وهدوءًا.
رسالة إلى القارئ:
إذا كنت تشعر أن منصات التواصل المعتادة أصبحت مرهقة، أو أنك تكرر نفس المحتوى كل يوم، فجرب أن تفتح نافذة مختلفة عبر "تليجرام". قد تجد هناك جانبًا آخر من العالم الرقمي: أكثر نفعًا، وأقل صخبًا، وأقرب لما يليق بعقلك واهتماماتك.
افتح الباب، واستكشف.

Saturday, 14 June 2025

خدعة بيئية بثمن غالٍ

في زمن تتسارع فيه الشركات نحو الاستدامة، اختارت آبل أن تُظهر نفسها في ثوب المدافع عن البيئة، حين أعلنت عن قرارها المفاجئ بإلغاء الشاحن وسلك التوصيل من علبة هواتفها الجديدة، بدءًا من iPhone 12. قدمت الشركة تبريرًا يبدو إنسانيًا وأخلاقيًا للوهلة الأولى: حماية البيئة وتقليل النفايات الإلكترونية. لكن مع قليل من التأمل وكثير من التجربة، بدأت هذه الخطوة تتكشف على حقيقتها… لا حماية للبيئة فيها، بل حماية للأرباح.

لم تقم آبل بتخفيض سعر الجهاز بعد إزالة الملحقات. بل على العكس، استمر السعر في التصاعد، في حين بات المستهلك مضطرًا لشراء الشاحن والسلك بشكل منفصل، وغالبًا من نفس الشركة وبأسعار مرتفعة. وبحجة البيئة، ارتفع عدد العلب، وتعددت الشحنات، وزاد الاستهلاك بدل أن ينخفض. فأين هي الحماية؟ وأين هو التقليص؟
الخدعة الأكبر لم تكن في القرار نفسه، بل في تأثيره. آبل تملك علامة تجارية قوية، وقاعدة جماهيرية واسعة، وغالبًا ما تكون هي من يُملي القواعد على السوق. والنتيجة؟ تبعتها شركات عملاقة مثل سامسونج وشاومي وغيرها، وكلها بدأت تشطب الملحقات من العلبة، مكررة الخطاب البيئي ذاته. لكن الحقيقة أنهم لم يكونوا يقلدون آبل من باب الابتكار، بل من باب الربح. فكلما قلت التكاليف على الشركة، زادت الأرباح… ولو على حساب راحة المستهلك وحقه في منتج مكتمل.
الخطير في هذا المشهد هو تطبيع الاحتيال، حين يُقدّم للمستهلك على أنه "خدمة سامية". يُطلب منا أن نقتنع بأن شراء منتج ناقص بسعر أعلى هو خيار نبيل من أجل كوكبنا. لكن الحقيقة غير ذلك. الحقيقة أن البيئة صارت واجهة مثالية للتمويه التجاري، تُخفي خلفها قرارات لا تخدم إلا الحسابات البنكية.
المستهلك الذكي اليوم لم يعد ينطلي عليه الكلام المعسول. يدرك أن ما يُفرض عليه تحت شعار "الاستدامة" يجب أن يكون منسجمًا مع الشفافية، ومع مصلحته كطرف أساسي في المعادلة. البيئة لا تُحمى بإلغاء شاحن، بل تُحمى بإصلاحات جذرية في سلاسل الإنتاج والنقل والتدوير. أما ما تفعله الشركات اليوم، فهو إعادة تعبئة الطمع في علبة خضراء. 

Tuesday, 10 June 2025

لكلٍ طريقه.. وإن كان غير مألوف.

كثيرًا ما نسمع نصائح تبدأ بعبارات مثل: "الطريق المجرب هو الأضمن"، أو "افعل مثل فلان لتنجح". وفي حين أن الاستفادة من تجارب الآخرين أمر مهم، إلا أن ذلك لا يعني أن ننسخ خطواتهم حرفيًا، أو نلغي خصوصية تجاربنا وظروفنا. فلكل شخص طريقته الخاصة في الوصول، وربما تكون تلك الطريقة غير مألوفة، أو حتى غريبة في نظر البعض، لكنها إن كانت فعّالة ولا تُسيء لأحد، فإنها تستحق الاحترام.
إن السعي نحو الهدف لا يجب أن يكون مطابقًا لقالب واحد، فالعقول تتنوع، والوسائل تتعدد، وما يُناسب أحدهم قد لا يُناسب غيره. فهناك من ينجح بالهدوء والتأمل، وآخر بالاندفاع والمغامرة، وهناك من يلتف حول العقبات بطريقة ذكية بدلًا من الاصطدام بها. المهم في كل هذا، أن يظل الهدف نقيًا، والطريق إليه لا يعتدي على حقوق أحد، ولا يجرح القيم.
بل إن بعض أنجح القصص في التاريخ بدأت بخطوات وُصفت بالجنون، أو وُوجهت بالاستهجان، ثم تبين لاحقًا أنها كانت سابقة لزمانها.
خذ مثلًا قصة ستيف جوبز، مؤسس شركة Apple، الذي ترك الجامعة بعد فصل دراسي واحد فقط، وبدأ رحلة غير تقليدية بين دورات فنية وتجاربه الخاصة في التأمل والسفر. لم يتبع الطريق الأكاديمي التقليدي، لكنه بفضل شغفه وحدسه، أحدث ثورة في عالم التقنية غيرت شكل العالم.
وفي العالم العربي، يبرز مثال ناصر القحطاني، مؤسس مبادرة "إعلاميون"، الذي بدأ حياته كموظف بسيط في إحدى القنوات ثم قرر أن يؤسس كيانًا إعلاميًا مستقلًا يهتم بالتدريب والدفاع عن حقوق الإعلاميين. اختار طريقًا غير معتاد، لكنه بنى له حضورًا واحترامًا في أوساط الإعلام الخليجي.
ولدينا أيضًا قصة توماس إديسون، الذي طُرد من المدرسة لأن معلميه رأوا أنه بليد وضعيف الفهم! لكن والدته آمنت به، وعلّمته بنفسها، ليخترع لاحقًا المصباح الكهربائي ويصبح أحد أعظم المخترعين في التاريخ. طريقه في التعلم لم يكن تقليديًا، لكنه أثمر أعظم الإنجازات.
بل حتى في مجتمعاتنا الصغيرة، نرى من يقرر ترك وظيفة حكومية مرموقة ليتفرغ لمشروع ناشئ يؤمن به، أو من يتعلم مهارة جديدة عن بُعد، بعيدًا عن الطرق المعتادة في التعليم، ويثبت أن العبرة ليست بـ"الطريقة"، بل بالنية والالتزام والصدق مع الذات.
إن احترام الطرق المختلفة لا يعني الموافقة المطلقة عليها، بل يعني الاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف، وفي اتخاذ قراراتهم بما يرونه مناسبًا لهم. وكما لا يجوز فرض طريق معين على الجميع، لا يصح كذلك الاستخفاف بمن اختار أن يسلك طريقًا خاصًا، ما دام لا يضر أحدًا ولا يخالف القيم.
وفي النهاية، ما يهم ليس شكل الطريق، بل الوصول. وما دام الإنسان يمشي بثبات، ويحترم نفسه والآخرين، فليكن طريقه كما يشاء.

Monday, 9 June 2025

اشتراكات التطبيقات حين تتحول إلى استغلال.

في بدايات التطبيقات الذكية، كانت التجربة بسيطة: تبحث عن أداة لحاجتك، تشتريها بسعر عادل، وتنطلق. أما اليوم، فقد تحولت كثير من التطبيقات إلى أفخاخ استنزافٍ ناعم، تخفي خلف واجهاتها اللامعة اشتراكات أسبوعية مبالغ فيها، تُفرض على المستخدم مقابل خدمات أساسية لا تستحق حتى عُشر تلك التكلفة.
المزعج في هذه الظاهرة ليس ارتفاع السعر فقط، بل طريقة تقديمه: تجربة مجانية قصيرة جدًا تنتهي فجأة، ثم تظهر شاشة الدفع دون تحذير واضح، وبخطة اشتراك قد تصل إلى ١٤ أو ١٥ دولارًا في الأسبوع – أي ما يزيد على ٧٠ دولارًا في الشهر، من أجل ميزات بسيطة مثل القص واللصق في مقاطع الفيديو، أو تصفية الصور، أو تحويل النص إلى صوت، أو تحرير مستند عادي!
وبينما يعتقد البعض أن هذه الأسعار تعكس جودة عالية أو تقنيات متقدمة، تظهر الحقيقة جلية عند المقارنة: كثير من المنافسين يقدمون نفس الميزات وأفضل منها مجانًا أو بسعر رمزي يُدفع لمرة واحدة، دون إعلانات ولا اشتراكات ملتوية.
الأسوأ من كل هذا أن بعض التطبيقات لا تكتفي بالاشتراك، بل تُثقل تجربة المستخدم بالإعلانات المزعجة، وتربك واجهتها التصميمية لتدفعه دفعًا إلى النقر على زر الاشتراك – سواء أراد أم لا. حتى مصطلحات مثل "ذكاء اصطناعي" و"خوارزميات ذكية" أصبحت تُستخدم كغطاء تسويقي، لتضخيم قيمة لا وجود لها فعليًا.
ولا تكتفي هذه التطبيقات بتحقيق الأرباح، بل تسعى لاحتكار الاستخدام عبر الدفع المستمر، وتُراهن على أن المستخدم إما سينسى إلغاء الاشتراك، أو سيشعر بالإحراج من التخلي عن "ميزة" اشترك فيها، رغم أنه بالكاد يستخدمها.
نحن بحاجة إلى وعي مختلف. إلى أن ندرك أن كثيرًا من هذه الاشتراكات ما هي إلا نسخة حديثة من الاستغلال، مموهة ومزينة ومقننة، لكنها في جوهرها تستخف بالمستخدم وتستنزف رصيده دون وجه حق.
الحل ليس في مقاطعة التطبيقات، بل في اختيار الواعي منها، ومطالبة المتاجر الكبرى مثل Google Play وApp Store بوضع ضوابط أوضح، وفرض شفافية أعلى على آلية الاشتراكات، وعدم السماح للتطبيقات بأن تُخفي شروط الدفع خلف واجهات مضللة.
وأخيرًا، تبقى مسؤوليتنا كمستخدمين أن نشارك تجاربنا، ونحذر غيرنا، ونمنح تقييماتنا الحقيقية – لا نُجامل، ولا نُسكت، بل نقول بوضوح: الاشتراك مقابل لا شيء، ليس رفاهية… بل استغفال.

Sunday, 8 June 2025

بين الشراء والتبرع: أيّهما يترك أثراً أبقى؟

في عالم يزداد فيه كل شيء تسعيراً وتحديداً، تظهر مبادرة مختلفة تُشبه لمسة إنسانية وسط زحام المنطق التجاري: أن تمنح منتجك أو محتواك مجاناً، وتترك خيار التبرع لمن أراد دعمه. قد يبدو هذا النموذج للوهلة الأولى مثالياً أو عاطفياً، لكنه في الواقع يحمل فهماً عميقاً لسلوك الإنسان، ولطبيعة العلاقة بين المبدع والجمهور.

بدلاً من فرض مبلغ معين على كتاب إلكتروني أو تطبيق أو محتوى تدريبي، يُعرض المنتج مجاناً، ويُفتح المجال لأي شخص أن يدعم صاحبه بما يراه مناسباً. الفكرة بسيطة، لكنها تخلق تأثيراً كبيراً. فالمتلقي لا يشعر أنه "اشترى" شيئًا، بل شارك في دعمه. ومن هنا، تتغير نظرته تماماً تجاه التجربة. التبرع هنا لا يكون ردّاً على طلب، بل استجابة لمشاعر داخلية مثل الامتنان أو الإعجاب أو حتى الإيمان بقيمة ما تلقّاه.
من زاوية العلاقات العامة، هذا النموذج لا يبني فقط صورة إيجابية، بل يخلق علاقة إنسانية عميقة. المؤسسات أو الأفراد الذين يختارون هذا الأسلوب لا يتعاملون مع الجمهور كأرقام أو مستهلكين، بل كشركاء. وهنا، ينتقل الاتصال من كونه ترويجاً إلى كونه بناء ثقة. وما يُدهشك، أن هذا النوع من الثقة يترجم غالباً إلى دعم حقيقي، ولو بمبالغ رمزية، لكنه دعم نابع من إرادة حرة، وهذه هي النقطة الفاصلة.
الفرق بين أن تشتري شيئًا، وبين أن تحصل عليه مجاناً ثم تختار دعمه، هو فرق في نوع الشعور لا في نوع القيمة. في الحالة الأولى، تتم عملية تجارية تقليدية: تدفع وتستلم. أما في الحالة الثانية، فإنك أولاً تُمنح، ثم يُخاطب ضميرك. قد تتجاهله، لكن الأغلب أنك ستفكر، وستقدّر، وربما تدعم. وفي كل الحالات، لن تشعر بأنك مُجبر أو مدفوع لذلك.
هذا النموذج يراهن على الخير الكامن في الناس. وهو أيضًا وسيلة لفتح أبواب الوصول أمام الجميع، بغض النظر عن قدرتهم المادية. المحتوى يبقى متاحاً، والتبرع يصبح وسيلة استدامة، لا شرط دخول. وبهذا، ينتقل المنتج أو المحتوى من دائرة السوق إلى دائرة الأثر، ويصبح مدفوعاً بقوة الفكرة، لا بقوة السعر.
في السياق الاجتماعي، هذه الفكرة تشجع على الكرم، وتعيد للناس شعورهم بالقدرة على المساهمة، ولو بالقليل. وفي السياق النفسي، تُشعر المتبرع بأنه ليس مجرد مستهلك، بل إنسان محترم يُثق باختياره. وهذا يترك أثراً أعمق من أي إعلان أو عرض تسويقي.
قد لا يدر هذا النموذج أرباحاً فورية، لكنه يراكم رأس مال من نوع آخر: الاحترام، السمعة الطيبة، الولاء الحقيقي. والأهم من ذلك، أنه يعيد تعريف ما يعنيه أن تُنتج شيئًا نافعاً في هذا العالم. فالمبدع لا يُقاس بما يجنيه من كل نسخة، بل بما يتركه من أثر في كل شخص.
ختاماً، هذه الفكرة ليست مجرد طريقة جديدة للدفع، بل هي فلسفة في منح الثقة، وإفساح المجال للمشاركة. وكل من جرّبها، يعلم أن الناس حين يُمنحون حرية القرار، غالبًا ما يختارون أن يكونوا نبلاء.

 

الاعتدال في الرأي… طريق إلى الجماهيرية الرقمية

في عصر السوشيال ميديا، حيث يتنافس الأفراد والمؤسسات على كسب أكبر عدد من المتابعين، يبرز سؤال مهم: لماذا يحظى أصحاب الآراء المعتدلة والإيجابي...